طعم الحياة الرديء جعلني أتألم بصمت على تلك الطفولة البائسة التي تفترش الأرصفة بدون أن يكون لها ذنب، فهي لم تختر بملء إرادتها أن تصبح عرضة للمهانة والذل، بل فرضها عليها مع سبق الإصرار والترصد آباء وأمهات تخلوا عن عطفهم وحنانهم وألقوا تلك المشاعر جانبا.
قد تكون هناك أسباب كثيرة دفعتهم إلى ذلك، لكنها أبدا لن تبرر فعلهم الإجرامي الذي ارتكبوه بحق أطفال أبرياء كتب عليهم القدر أن يعيشوا مشردين مسلوبي الحقوق يعانون مرارة الحرمان والقهر على ملامحهم الغضة البريئة نقشت أوجاعهم لتعكس بوضوح طبيعة الحياة التي يعيشونها؛ حياة قاسية باردة ليس فيها مكان للدفء والأمان.
صحيح قد تكون أحلامهم بسيطة وعفوية تقتصر فقط على مأوى يحميهم من حر الصيف وبرودة الشتاء القارسة، مأوى يجدون فيه زاوية للحب والعطف والرحمة بإمكانها أن تخفف من معاناتهم وتريحهم من هموم ثقيلة تأبى روحهم المنهكة التخلي عنها لسبب نجهل حقيقته، لكن حتى هذا الحلم لم يعد من حقهم، ليس لأنهم يهوون تعذيب أنفسهم بل لأنهم وببساطة مجبرون على ذلك، فإحساسهم بالخوف يدفعهم دائما إلى بذل المستحيل من أجل كسب المال الذي غالبا ما يحصلون عليه بأساليب مبطنة تخفي خلفها انكسارا وضعفا من الصعب أن نشعر به نحن، وذلك لأننا لم نختبر تلك الحياة المؤلمة التي جردتهم من طفولتهم وجعلتهم يكبرون قبل الأوان.
على تلك الأرصفة تقاسموا آلامهم وسكبوا دموعهم الممزوجة بالقهر وتعالت أصواتهم الصماء التي تأبى أن تبوح بأسرار يحاولون إخفاءها عن الآخرين كي لا يتضاعف إحساسهم بالوجع أكثر من ذلك، لهذا السبب قد يضطرون إلى الكذب أو إلى قول نصف الحقيقة والاحتفاظ بالنصف الآخر لأنفسهم؛ خوفا من الضرب المبرح الذي سيتعرضون له في حال لم يتمكنوا من جمع أكبر مبلغ من المال من قبل آباء تحجرت قلوبهم التي أضناها الفقر ولم يعد فيها مكان للرحمة أو الشفقة لدرجة أنهم تخلوا عن مسؤولياتهم تجاههم دافعين بهم إلى الشارع الذي نجح في تحطيمهم نفسيا وتجريدهم من أمانيهم البسيطة التي بإمكانها أن تقويهم وتغيرهم كليا ليستعيدوا أملا كاد أن يتلاشى وسط تلك الأوجاع.
هؤلاء الأطفال الذين سلبت منهم الحياة ابتسامتهم ليحل مكانها حزن كبير من الصعب أن يزول أثره على مر السنين، استطاعوا وبجدارة أن يعطوا بكل ذلك السخاء رغم افتقادهم لمشاعر الحب والحنان التي أشبه ما تكون بالنسبة لهم وهم لا يجرؤون على التفكير به ربما لأنهم اعتادوا على القسوة فأصبحت جزءا لا يتجزأ من روحهم المثقلة بالجراح والتي تنتظر الفرصة المناسبة لكي تستعيد حريتها من جديد ملقية خلفها تراكمات من الهموم آثرت البقاء في حناياها رغما عنها.
قد تستوقفنا وجوههم الشاحبة التي تروي بصمت معاناة لا يتجاوز عمرها بضع سنوات، لكننا رغم ذلك نجهل تماما حجم المرارة التي يتجرعونها كل يوم بدون أي ذنب، لذلك نحاول التغاضي عن السبب الحقيقي الذي دفعهم للتسول لنبدأ في انتقادهم وزجرهم بحجة ردعهم عن هذه المهنة المهينة التي تنتقص من كرامتهم وتجعلهم عرضة للاستغلال من قبل أناس لا يعرفون معنى الرحمة.
كثيرا ما نتسرع في إصدار الأحكام على الآخرين فقط لأننا لم نحاول أبدا أن نتفهم ظروفهم الغامضة التي لا يمكننا معرفتها إلا إذا تقربنا منهم ولامسنا آلامهم حينها سنخلق لهم أعذارا ترضي مشاعرنا التي تستنكر كل تلك القسوة محاولين التعاطف مع أطفال تاهت بهم السبل فكان مصيرهم الضياع والحرمان، مشاعرنا المتضاربة بين الرفض والشفقة قد لا تؤثر عليهم سلبا أو إيجابا بشكل مباشر لكنها حتما ستلعب دورا مهما في إيجاد المبررات التي تعيننا على مساعدتهم وتخليصهم من تلك الحياة الموجعة التي استنزفت أرواحهم فحرمتهم من العيش بدفء وأمان.
هم لا يحتاجون منا سوى إلى اهتمام حقيقي ينقذهم من حالة الضياع التي اختبروا تفاصيلها جيدا لدرجة أنهم اعتادوا عليها رافضين التحرر من قضبانها الحديدية التي تأسر براءتهم المضطهدة غير آبهين بحجم المعاناة التي تلغي حقهم في ممارسة حياتهم بشكل طبيعي بعيدا عن القهر والإهانة والألم، كل ما يلزمهم هو أن نزيد وعينا بقدراتهم وخبراتهم محاولين تحديد مكامن القوة في دواخلهم لنتمكن من رعايتهم جيدا قاصدين تخليصهم من ذلك البؤس الذي قتل أحلامهم وبدد سعادتهم
0 التعليقات لموضوع "طفولة بائسة على الطرقات"
الابتسامات الابتسامات